مفهوم الشخصمنهجية النص الفلسفي

تحليل ومناقشة نص ديكارت في هوية الشخص | كتاب منار الفلسفة ص18

نموذج تطبيقي لمنهجية تحليل ومناقشة نص فلسفي


نص ديكارت | الفكر أساس هوية الشخص


أطروحة ديكارت هوية الشخص

أي شـيء أنا إذن؟ أنا شيء مفكر. وما الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك، ويفهم، ويتصور، ويثبت، وينفي، ويريد، ويتخيل، ويحس أيضا. إنه ليس بالأمر اليسير أن تكون هذه كلها من خصائص طبيعتي، ولكن لمَ لا تكون من خصائصها؟

ألستُ أنا ذلك الشخص نفسه الذي يشك الآن في كل شيء تقريبا، وهو مع ذلك يفهم بعض الأشياء و يتصورها ويؤكد أنها وحدها صحيحة، وينكر سائر ما عداها، ويريد أن يعرف غيرها، ويأبى أن يُخدع ويتصور أشياء كثيرة على الرغم منه أحيانا، ويحس منها الكثير أيضا بواسـطة أعضاء الجسم؟ فهل هناك من ذلك كله شيء لا يعادل في صحته اليقين بأني موجود، حتى لو كنت نائما دائما وكان من منحني الوجود يبذل كل ما في وسعه من مهارة لتضيلي؟ وهل هنالك أيضا صفة من هذه الصفات يمكن تمييزها عن فكري أو يمكن القول بأنها منفصلة عني؟

فبديهي كل البداهة أنني أنا الذي أشـك وأنا الذي أفهم وأنا الذي أرغب، و لا حاجة إلى شيء لزيادة الإيضاح. ومن المحقق كذلك أن لدي القدرة على التخيل: لأنه على الرغم من أنه من الممكن – كما افترضت فيما سبق- أنه لا شـيء مما أتخيل بحقيقي، فإن هذه القدرة على التخيل لا تنفك أن تكون جزءا من فكري، وأنا أخيرا الشـخص عينه الذي يحس، أي الذي يُدرك أشــياء معينة بواسطة الحواس … من هنا بدأت أعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح و التميز يزيد عما كنت أعرف من قبل.


“ديكارت”، التأملات، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين ، مكتبة الأنكلو مصرية ، الطبعة الثانية ، 1974، ص: 101-103



خطاطة توضيحية لفهم النص

خطاطة-توضيحية-لمضمون-أطروحة-ريني-ديكارت-الفكر-أساس-هوية-الشخص-18

I. مطلب الفلهم

عندما يستعمل الإنسان لأول مرة كلمة “أنا” لكي يعبر عن ذاته وعن إرادته ورغبته، فإنه يدخل مرحلة الوعي بالذات وتشكل الهوية الشخصية. وحين تأمل الفلاسفة والمفكرون قضية “هوية الشخص” وجدوا أن لها ارتباطا بالمقومات الجوهرية المحددة للذات الإنسانية من قبيل: الوعي، الشعور، الذاكرة… ، وفي هذا المستوى طُرح إشكال الأساس الجوهري الذي تقوم عليه، كما تم التساؤل أيضا عن طبيعة هوية الشخص إذا ما كانت تظل ثابتة أم أنها تقبل التغير. هذا الأمر يقودنا إلى بسط الإشكال الفلسفي لهوية الشخص في ضوء التساؤلات التالية:

II. تحليل النص

1. الأفكار الجزئية للنص

  • يتساءل ديكارت في نصه عن طبيعته البشرية وماهيته كموجود، أو بالأحرى عن الأساس الذي يقوم عليه وجوده الشخصي.
  • يقوم ديكارت بجرد خصائص الذات المفكرة وحصرها في مجموعة من أفعال العقل، وهي: الشك والنفي، الفهم، التصور، الإثبات، الإرادة، التخيل، الإحساس…
  • يستنتج ديكارت بكل يقين، بعد انتهائه من أطوار عملية الشك المنهجي أن كل أفعال العقل تلك، صادرة عن أناه الشخصية، وأنه يوجد كذات مفكرة هي مصدر الوعي والشعور بوحدة الذات وتطابقها مع ذاتها، أي أن الفكر أساس هوية الشخص.

2. أطروحة ديكارت | هوية الشخص

في سياق الإجابة عن الإشكال الفلسفي الذي تطرحه قضية “هوية الشخص”، يرى “ديكارت” أن: “العقل هو جوهر الذات الإنسانية وبدونه لا يمكن للإنسان أن يعي ذاته ويدرك وجوده ويبلغ الحقيقة، بما في ذلك حقيقة الوجود الذاتي والهوية الشخصية، ومن هنا فإن أساس هوية الشخص بنظره هو العقل والفكر، وما يؤكد بنظره هذه الحقيقة التي تحمل طابع البداهة والوضوح في الأصل هو أنه موجود بهذه الصفة حتى ولو كان نائما دائما، ومن خلال هذا يتبين أن حقيقة الأنا هي كونها ذاتا مفكرة، تستطيع أن تثبت وجودها من خلال هذا الفكر ذاته. الذي ينطلق من الذات ليعود إليها”.

3. مفاهيم النص

تقتضي الإحاطة الشاملة بتفاصيل الأطروحة الكشف عن دلالات المفاهيم الأساسية التي صِيغت بها، ومن بين هذه المفاهيم نذكر: “الأنا”، “الفكر”، “الشخص”… إضافة إلى مفهوم “هوية الشخص” الذي يحضر بشكل ضمني في النص، فما دلالة هذه المفاهيم؟

  • الأنا: هي الذات الواعية التي تُرد إليها أفعال التفكير والوعي والشعور. وهي الجانب العاقل والواعي من شخصية الإنسان، وتقابل الآخر والعالم الخارجي. وتحيل حسب سياق النص على الشخص باعتباره ذاتا مفكرة.
  • الفكر: هو السمة الفطرية المميزة للموجود الإنساني الذي يُعرَّف بكونه ذاتا مفكرة، ويتجلى في مجموع أفعال العقل والتفكير التي تستعملها الذات أثناء وعيها لذاتها وإدراكها لوجودها.
  • الهوية الشخصية: وهي مفهوم مركزي يحضر ضمنيا، وتحيل حسب سياق النص على الحقيقة الثابتة للشخص، كما تعني في دلالتها الفلسفية العامة مجموع الخصائص والسمات الجوهرية التي تميز الشخص عن غيره وتجعله مطابقا لذاته، محافظا على وعيه بذاته عبر مختلف مراحله العمرية وبغض النظر عن التغيرات التي تلحق الجسد. فالهوية هي ما يجعل من الشخص “هو هو”; مطابقا لذاته.”
  • الشخص: يشير إلى الإنسان، بما هو ذات مفكرة وواعية، وقادرة على التمييز بين الخير والشر والصدق والكذب وتتحمل مسؤولية أفعالها واختياراتها مسؤولية قانونية وأخلاقية”.

4. العلاقة بين المفاهيم

وبتأملنا للعلاقات الدلالية التي تنسجها مفاهيم النص، يتضح لنا أن: “الفكر هو ما يشكل أساس هوية الشخص” حسب التصور الديكارتي، والفكر خاصية جوهرية ثابتة، به يُعرَّفُ الإنسان وبموجبه تتحدد ماهيته، وتتشكل هويته الشخصية.

5. حجاج النص

وبانتقالنا للحجج الموظف في هذا النص، نجد “ديكارت” يستهل نصه بالتساؤل عن ماهيته وطبيعته الشخصية بغية الوقوف على الجوهر المؤسس لوجوده، فيؤكد أنه شيء مفكر ، ثم يقوم بجرد خصائص الشيء المفكر (التفكير العقلي) محددا إياها في مجموعة من أفعال العقل وهي: الشك، والفهم، والتصور، والإثبات، والنفي، والإرادة، والتخيل، والإحساس، مؤكدا في نفس السياق على ارتباط هذه السمات العقلية بطبيعته المفكرة، بعد اعتماده أسلوب الشك المنهجي لينتهي بعد ذلك إلى فكرة يقينية مؤداها أن تلك الصفات العقلية لا يمكن فصلها عن فكره، وبالتالي فهو نفس الشخص الذي يشك ويفهم ويرغب ويتخيل… وما يدل على ذلك قوله مستنتجا: “من هنا بدأت أعرف أي شيء أنا بقدر من الوضوح والتميز”. مما يجعلنا نستنتج مع “ديكارت” أن الفكر أو العقل هو أساس هوية الشخص.

III. مناقشة النص

1.1 قيمة الأطروحة

من ناحية “قيمة الأطروحة” يمكن القول أن أطروحة “ديكارت” تكتسي قيمة فكرية منطقية، لكونها تمكنت من الكشف عن الأساس الحقيقي لهوية الشخص، ذلك أن إقران هوية الشخص بالفكر، له مبرر عقلي ومنطقي لا يمكن إنكاره، لأن الذات أو الأنا، لا يمكن أن توجد إلا بهذه الصفة، أي كذات مفكرة، حيث الفكر أساس وجود الذات ووعيها بذاتها، وهذا ما تعبر عنه مقولة الكوجيتو الديكارتي ” أنا أفكر، فأنا موجود”، فنحن في وعينا لذواتنا وإدراكنا لهويتنا، يتم ذلك من خلال أفعال العقل والتفكير الملازمة لنا والمطابقة لذواتنا، “فلو انقطعت مثلا عن التفكير، لانقطعت عن الوجود” فالفكر أساس وجود الإنسان وأساس هويته الشخصية.

2.1 حدود الأطروحة

أما بالنسبة لحدود أطروحة “ديكارت”، فيمكن القول أن ربط “الهوية الشخصية” بالعقل وحده سيجعلنا نقصي مجموعة من الخصائص الجوهرية الأخرى والتي تحدد وجود الذات الإنسانية، على اعتبار أن العقل ليس جوهرا مستقلا بذاته، أو معزولا عن بقية الوظائف الذهنية والسيكولوجية الأخرى من قبيل الوعي والشعور والإحساس والذاكرة…، فهو يشتغل بشكل تفاعلي مع كل المقومات الجوهرية المحددة للذات الانسانية، ومنه فكل هذه العناصر تتداخل وتتفاعل في تشكيل وحدة الذات الإنسانية وتغذي الهوية الشخصية، مما يفرض تعدد الأسس التي تقوم عليها هوية الشخص ناهيك عن هذا، فإن أي خلل يصيب إحدى تلك الوظائف النفسية، سيعرض الهوية الشخصية للضياع أو التعدد ومنه فهوية الشخص لا يمكن اعتبارها ثابته.

أما من ناحية أخرى، فتجارب الحياة والواقع تبين أن الإنسان قد يصاب باضطرابات نفسية وعقلية، كالجنون والفصام (ازدواجية الشخصية) وفقدان الذاكرة…، حيث تضطرب وظائف العقل والوعي، حتى أن بعض الأشخاص الذين يعانون من مثل هاته الأنواع من الاختلالات السيكولوجية قد يصل بهم الحد إلى انعدام القدرة على التعرف على أنفسهم، فيسقطون في أزمة الهوية. وانطلاقا من هذه الاعتبارات، نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي تبدو من خلاله إشكالية الهوية الشخصية مستعصية على الحل، ومنه يجوز الانفتاح على تصورات ومواقف فلسفية أخرى…

أطروحة جون لوك

إن ما يجعل الشخص مطابقا لذاته حسب “جون لوك” John Locke رغم تغيرات الزمان والمكان هو الوعي أو الشعور المقترن بالذاكرة. فعن طريق التجربة الحسية للذات في الوجود، تتحول التأثيرات الحسية التي تأتي بها الحواس من العالم الخارجي إلى أفكار في الذاكرة منتجة وعيا ممتدا في الزمان، هذا الوعي هو الذي يربط أفعال الشخص الماضية بأفعاله الحالية فيجعله هو ذاته، متميزا عن غيره مما يعني أن الوحدة والاستمرارية هما ما يكون الهوية الشخصية في نظر “جون لوك”.

أطروحة جول لاشوليي

وخلافا لما عبرت عنه الفلسفة الحديثة (النزعة العقلانية والتجريبية) من تصورات بخصوص هوية الشخص، سيعبر “جول لاشوليي” Jules Lachelier في سياق الفلسفة المعاصرة عن تصور فلسفي ذو مرجعية نفسية سيكولوجية، فهو يرى أن الهوية الشخصية تقوم على عمل آليتين نفسيتين: دوام المزاج (الطبع) أي ردود الأفعال المطبوعة بطابع شخصي وترابط الذكريات. وينتقد التصور الماهوي لهوية الشخص القائم على فرضية وجود جوهر ثابت، فالهوية في نظره ليست شعورا أو وعيا قبليا، بل هي طبع متحول وذاكرة متغيرة، ويستند “جول لاشوليي” لتأكيد تصوره على حالات واقعية مثل تحول الإنسان من حال إلى آخر بين النوم واليقظة، وفقدان الذاكرة وبعض الحالات المرضية النفسية كازدواجية الشخصية.

IV. مطلب التركيب

ما يمكن استخلاصه من المعطيات السابقة بصدد إشكالية الهوية الشخصية، أن هوية الشخص تفترض تعدد الخصائص الجوهرية المميزة للإنسان، (العقل، الوعي، الشعور، الإرادة، الذاكرة..) كما انها يمكن أن تظل ثابتة، كما يمكن أن تتغير. ولفهم حقيقة الشخص يتطلب الأمر استحضار مقومات فلسفية وسيكولوجية أخرى، فهوية الشخص تتحدد بماهيته كذات واعية تمتلك جوهرا ثابتا، وهو الفكر والشعور والإرادة، مما يجعلها هوية فطرية. كما تتحدد بتكوينها النفسي الذي يكسبها طبعا وذاكرة، وقد تتحدد أيضا بتكوينها الاجتماعي إذ تترسخ لديها داخل المجتمع قيم ومعتقدات مما يجعلها هوية مجتمعية تختلف من مجتمع لآخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى